تهجير غزة- خطة إسرائيلية أمريكية مستمرة وصمود فلسطيني يواجهها

المؤلف: ساري عرابي09.22.2025
تهجير غزة- خطة إسرائيلية أمريكية مستمرة وصمود فلسطيني يواجهها

إثر عملية "طوفان الأقصى" ومع اندلاع الحرب الإسرائيلية الشرسة على قطاع غزّة، والتي اتسمت بطابع الإبادة الجماعية منذ اللحظات الأولى، تصاعدت الأصوات الرافضة علنًا لتهجير الفلسطينيين قسرًا من ديارهم في القطاع المحاصر.

هذه التصريحات العلنية كشفت عن مناقشات معمقة تجري خلف الكواليس بشأن الأهداف الحقيقية للحرب الإسرائيلية على غزّة. وسرعان ما ظهرت وثيقة مسربة من وزارة الاستخبارات الإسرائيلية، تحت إشراف الوزيرة جيلا غامليل، مؤرخة في 13 تشرين الأول/أكتوبر 2023، أي بعد أقل من أسبوع على اندلاع العدوان، توصي الوثيقة باحتلال كامل قطاع غزّة وتهجير جميع الفلسطينيين إلى منطقة سيناء.

لقد فضلت الوثيقة هذا الخيار الدموي على بدائل أخرى، كإعادة السلطة الفلسطينية إلى حكم القطاع أو تأسيس حكم ذاتي عربي، معتبرة أن هذه البدائل تنطوي على عيوب جوهرية قد تؤدي إلى تهديدات إستراتيجية. ورأت الوثيقة في التهجير، بالرغم من المخاطر المترتبة عليه، الخيار الأمثل لـ "إسرائيل" من الناحية الإستراتيجية. إلا أن معدّي الوثيقة أشاروا إلى أن هذا الخيار يتطلب موقفًا سياسيًا حازمًا، وموافقة صريحة من الولايات المتحدة الأميركية، ودعمًا من الدول الحليفة لـ "إسرائيل".

تضمنت الوثيقة خطة شاملة لإعادة احتلال قطاع غزّة، تبدأ بتهجير قسري للسكان من شمال القطاع إلى جنوبه، بالتزامن مع حملة تطهير تدريجية تستهدف حركة حماس وشبكة الأنفاق التابعة لها، بهدف نقل السكان في نهاية المطاف من قطاع غزّة إلى شمالي سيناء.

وبالنظر إلى الأساليب الوحشية التي اتخذتها الحرب الإسرائيلية على غزّة، يمكن ملاحظة أن هذه الحرب كانت تسير وفقًا للخطة المذكورة. وعلى الرغم من التصريحات العلنية المعارضة لوزير الخارجية الأميركي آنذاك، أنتوني بلينكن، إلا أن مجرد صدور هذه التصريحات يكشف عن مداولات جدية كانت تجري في أروقة إدارة الحرب على غزّة.

تصريحات بلينكن العلنية الرافضة للتهجير تزامنت مع تسريبات تحدثت عن ممارسته ضغوطًا شخصية على عدد من الدول العربية لاستقبال سكان قطاع غزّة بعد تهجيرهم. وهو ما انعكس بدوره في تصريحات عربية أعربت عن قلق بالغ إزاء هذه الضغوط الجدية. تجسد ذلك في تصريح الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي خلال مؤتمر صحفي جمعه مع المستشار الألماني أولاف شولتس في 18 تشرين الأول/أكتوبر 2023، إذ قال: "إذا كانت هناك فكرة للتهجير، فإن صحراء النقب في إسرائيل متاحة، ويمكن تهجير الفلسطينيين إليها مؤقتًا إلى حين انتهاء إسرائيل من مهمتها المعلنة في تصفية المقاومة، أو الجماعات المسلحة: حماس والجهاد الإسلامي وغيرهما، ثم تعيدهم إذا شاءت. ولكن لا يمكن لمصر أن تتحمل تبعات نقل سكان قطاع غزّة إليها في عملية عسكرية فضفاضة قد تستمر سنوات، مما سيحوّل سيناء إلى قاعدة للمقاومة، ويقضي على السلام بين مصر وإسرائيل".

لا يمكن لمثل هذه التصريحات أن تصدر لولا وجود ضغوط حقيقية تهدف إلى تحويل حرب الإبادة الإسرائيلية على غزّة إلى إعادة احتلال للقطاع وتهجير قسري لسكانها إلى مصر، ومن ثم ضم أراضيه.

وقد تلطت بعض هذه الضغوط في تعبيراتها العلنية بغطاء إنساني يدعو إلى حماية المدنيين الفلسطينيين من القصف الإسرائيلي في مناطق آمنة على الحدود مع مصر.

وبعد مرور خمسة عشر شهرًا على الحرب الإسرائيلية على غزّة، وبعد إبرام المرحلة الأولى من "اتفاق تبادل الأسرى بين حماس وإسرائيل، والعودة إلى الهدوء المستدام بما يحقق وقف إطلاق نار دائم بين الطرفين"، خرج الرئيس الأميركي المنتخب حديثًا، دونالد ترامب، بتصريحات عن مساعيه لإقناع مصر والأردن ودول عربية أخرى باستقبال سكان قطاع غزّة، وذلك بعد تقارير إعلامية تحدثت عن بحث إدارة ترامب في إمكانية نقل سكان قطاع غزّة إلى إندونيسيا مؤقتًا إلى حين إعادة إعمار القطاع.

تصريحات ترامب، التي تتذرع بالوضع الإنساني المتردي في غزّة، واضحة الدلالة من حيث الرغبة في تهجير سكان قطاع غزّة بما يتفق مع الخطة الإسرائيلية التأسيسية لحرب الإبادة الجماعية، كما كانت في بداية الحرب. وهو ما يعزز الآراء التي تتجاوز تفسير الحرب الإسرائيلية على غزّة بكونها حربًا إسرائيلية/أميركية، إلى القول بأن أهدافها محل اتفاق بين الإسرائيليين والأميركيين، بما في ذلك تهجير الفلسطينيين من قطاع غزّة، وبشكل يتجاوز الإدارات المتعاقبة، أي أنه موقف المؤسسة الأميركية، بأجهزتها الثابتة والراسخة.

لا تكشف تصريحات ترامب الموقف الأميركي الحقيقي تجاه الحرب الإسرائيلية وأهدافها النهائية فحسب، بل تكشف أيضًا فشل الحرب الإسرائيلية في تحقيق هذا الهدف في الوقت الذي حددته أميركا. فقد ظهر الإحباط الأميركي من طول أمد هذه الحرب سريعًا، كما في تصريحات لأنتوني بلينكن في كانون الأول/ديسمبر 2023، إذ قال: "لو سلمت حماس سلاحها، لكانت الحرب انتهت على الفور".

وإذا كانت الحرب بنمطها الإباديّ قد طالت في شهرها الثالث، فإن هذا يعني أنها لم تصل إلى شهرها الخامس عشر إلا بغطاء أميركي، لتحقيق ما يمكن تحقيقه من أهدافها. وأن صمود المقاومة، وتكبد الإسرائيليين خسائر مستمرة في جنودهم وعتادهم، بالإضافة إلى استنزاف جيشهم ومجتمعهم، هو الذي أفشل هدف التهجير، والذي كان من أبرز معالمه المتسارعة في الشهور الأخيرة من الحرب التدمير الكامل لمدن شمال قطاع غزّة: جباليا وبيت لاهيا وبيت حانون.

وقد تجلت قراءة الموقف الحربي بعد الحرب التي بلغت هذا الطول المديد، في تصريحات أخرى لبينكن في 14 كانون الثاني/يناير 2025، إذ قال: "هزيمة حماس بالحلول العسكرية وحدها غير ممكنة، وما يجري في شمال غزّة دليل على ذلك"، مشيرًا إلى أن حماس جندت عناصر جديدة بقدر ما خسرت.

الخلاصة الموجزة من ذلك، هي أن طول أمد الحرب مرتبط بأهداف إسرائيلية خطيرة تهدد مستقبل القضية الفلسطينية، وعلى رأسها تهجير الفلسطينيين من غزّة. وأن صمود المقاومة حال دون تحقيق هذا الهدف بالقوة العسكرية المحضة، لينتقل الأمر إلى محاولة تحقيق تلك الأهداف باستثمار نتيجة الحرب المادية، أي الدمار الهائل الذي لحق بالقطاع، أو كما عبر ترامب بقوله: "المدينة تحتاج حقًا إلى إعادة البناء.. لا بد أن يحدث شيء ما، لكنه موقع مدمر. لقد جرى تدمير كل شيء تقريبًا، والناس يموتون هناك. لذا، أفضل التعاون مع بعض الدول العربية وبناء مساكن في مكان آخر، ربما هناك يستطيعون العيش بسلام".

تفسر هذه التصريحات الأهداف الكامنة وراء التدمير الإسرائيلي الممنهج لقطاع غزّة. فالأهداف المباشرة هي:

أولًا: الانتقام لرفع الروح المعنوية الإسرائيلية واستعادة الردع وتيئيس الفلسطينيين من جدوى مقاومتهم.

وثانيًا: تغطية تقدم القوات البرية بالقصف الكثيف لتصفية المقاومة وحركة حماس.

إلا أن الهدف الإستراتيجي الأسمى هو تهجير السكان مباشرة بفعل القوة الإسرائيلية الغاشمة، وهو تطهير عرقي مدفوع هذه المرة بالإبادة الجماعية الصريحة. فإذا لم تدفع الإبادة السكان إلى الهجرة، وكان التواطؤ العربي بالغ الصعوبة، فبالتالي يمكن دفع الفلسطينيين إلى الهجرة بالدمار واليأس والبؤس الشديد.

وهو ما يذكر بتصريحات سابقة لوزير المالية الإسرائيلي المتطرف، بتسلئيل سموتريتش، إذ قال: "إن تشجيع الهجرة الطوعية هو احتمال آخذ في الانفتاح، ومن الممكن خلق وضع يجعل غزّة على النصف من عدد سكانها الحاليين خلال عامين، مع السيطرة الكاملة من دولة إسرائيل".

ما صرح به ترامب مؤخرًا يطابق تمامًا ما قاله سموتريتش، فترامب يتحدث عن تهجير نصف سكان قطاع غزّة، ويتذرع بالوضع المأساوي الذي خلفته الحرب الإسرائيلية لتبرير ذلك.

الذي يجب التأكيد عليه هو أن خطط التهجير القسري لسكان قطاع غزّة مطروحة باستمرار داخل أروقة المؤسسة الإسرائيلية منذ العام 1967 على لسان موشيه ديان، وفي خطة إيغال ألون.

وهو ما تكرر في العديد من الخطط اللاحقة، وذلك بالرغم من الأهمية الإستراتيجية والأيديولوجية للضفة الغربية. فقد ظلت الرؤية الإسرائيلية ثابتة على ضرورة تهجير سكان قطاع غزّة وضمّه في نهاية المطاف، وذلك بهدف التهويد الشامل لـ "أرض إسرائيل الكاملة" من جهة، ومن جهة أخرى لمعالجة معضلة الفقر المتفاقم في العمق الإستراتيجي الإسرائيلي، وهي معضلة تتكشف اليوم في حلول مثل احتلال أراض جديدة في سوريا، والسعي الدؤوب للبقاء في نقاط إستراتيجية داخل لبنان بعد الحرب الأخيرة على لبنان.

إن صمود الفلسطينيين الأسطوري في غزّة، وتَجدُّد المقاومة الباسلة فيها، منذ احتلال القطاع، هو الذي أحبط تلك الخطط الإسرائيلية الخبيثة. ولم يكن لهذه الحرب الشنيعة، التي حاولت أن تحوّل المحنة الإسرائيلية إلى فرصة ذهبية، أن تتوقف لو انكسرت شوكة المقاومة أو استسلمت، إذ ستصبح الطريق ممهدة لدفع الفلسطينيين قسرًا نحو الهجرة.

إذن، وبينما حمل ترامب، نتنياهو على توقيع الاتفاق مع حماس، بعدما تهرب منه الأخير كثيرًا وطويلًا، فإن ذلك لم يكن إلا لأن الحرب قد طالت أكثر مما ينبغي، وذلك بفضل صمود حركة حماس الذي فاق كل التوقعات من جانب جميع الفاعلين الإقليميين والدوليين.

لكن ذلك لا يعني بأي حال من الأحوال نهاية المطاف فيما يتعلق بمحاولة تحقيق أهداف هذه الحرب العدوانية، وبما لا يقتصر على قطاع غزّة. فالضفة الغربية تكتسب أهمّية بالغة بالنسبة للإسرائيليين، وخطط ضمّها معلنة على الملأ. وخطة ترامب لتصفية القضية الفلسطينية، المعروفة إعلاميًّا بـ "صفقة القرن"، والتي طرحها في ولايته الماضية، تقضي بتثبيت المستوطنات غير الشرعية في الضفة الغربية وضمّها لـ "إسرائيل"، مع إخضاع الوجود الفلسطيني بالكامل للهيمنة الأمنية الإسرائيلية المطلقة.

وإذا كان صمود المقاومة الفلسطينية الشرسة قد حال دون إنفاذ هدف التهجير من خلال الدفع العسكري المباشر، فإن الاستثمار في الدمار الهائل هو الخطة التالية لدفع الفلسطينيين نحو الهجرة القسرية، وبالضغط المباشر على عدد من الدول العربية لاستقبالهم، مما يحتّم على هذه الدول المواجهة الحاسمة لهذه الخطة الشيطانية من خلال الدعم الصريح لصمود الفلسطينيين الأبطال في قطاع غزّة، وبما يتطلب تجاوز الإرادة الإسرائيلية الغاشمة، ابتداء من الدخول المباشر والفعال في عمليات الإغاثة وتشييد المساكن المؤقتة، وفي الوقت نفسه البدء الفوري بإعادة الإعمار.

ويبقى على هذه الدول، إن امتلكت الرؤية الصائبة والإرادة المستقلة، دعم المقاومة الفلسطينية الباسلة بوصفها الشرط الأساسي لكبح جماح التغوّل الإسرائيلي المتزايد، لا سيما أن النوايا الإسرائيلية لتعويض الفقر المدقع في العمق الإستراتيجي متجسدة عمليًّا وتتجاوز الحيّز الجغرافي الفلسطيني. وما لا يمكن الحصول عليه جغرافيًّا، تعمل "إسرائيل" بدأب على تحصيله من خلال تكريس هيمنتها الشاملة على دول المنطقة.

ما تأكد جليًا من الحرب الإسرائيلية الوحشية على قطاع غزّة، وصمود المقاومة الفلسطينية الأبية فيها بالرغم من الظروف القاسية والمستحيلة، هو أن "إسرائيل" تحتمي بالإبادة أولًا، وبالولايات المتحدة ثانيًا. وهذا الأمر، بقدر ما يثير مخاوف دول الإقليم قاطبة، فإنه يؤكد في الوقت نفسه إمكانية بناء توازن إقليمي رادع في التصدي لـ "إسرائيل" التي تعجز عن تحقيق أهدافها العدوانية دون الدعم المطلق من الولايات المتحدة الأميركية.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة